ان الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن ، أما بعد ...
أهـــلا بكـم أحبائنا زوار و رواد و اعضاء منتدى الحديث و السيرة النبوية
دلالة مصطلح السيرة عند الإمام البخاري في صحيحه (1)
د. عبدالرزاق مرزوكَ
الحمد لله ولِيِّ النعمة والإفضال، العزيز الجبَّار الكبير المُتعال، والصَّلاة والسَّلام على من حاز خصالَ الشَّرف جميعًا على جهة الكمال، وعلى آله وصحبه ومن تَبِعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أمَّا بعد:
لَمَّا أراد الإمام البخاريُّ ذِكْرَ سيرة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في "صحيحه" جعلَها ضمن كتاب الأنبياء؛ فبدأ بذكر سائر الأنبياء - عليهم السَّلام - وختم الكتابَ بذِكْر النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم، باب المناقب[1]"، ثم ساق بأسانيده ما صحَّ على شرطه من مرويَّات السِّيرة النبوية.
وباب المناقب بأجْمَعِه إنَّما قصد به البخاريُّ - رحمه الله - فيما بيَّنَه الحافظُ ابن حجر - "سياقَ الترجمة النبويَّة؛ بأن يَجمع فيه أمورَ النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من المبدأ إلى المنتهى، فبدأ بمقدماتها من ذِكْر ما يتعلَّق بالنَّسب الشريف، فذكر أشياء تتعلَّق بالأنساب، ومِن ثَمَّ ذكر أمورًا تتعلق بالقبائل، ثم النَّهي عن دعوى الجاهلية؛ لأنَّ معظم فخرهم كان بالأنساب.
ثم ذكر صفة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشمائله، ومعجزاته، واستطرد منها لفضائل أصحابِه، ثم أتْبعَها بأحواله قبل الهجرة، وما جرى له بمكَّة، فذكر المبعث، ثم إسلام الصحابة، وهجرة الحبشة، والمعراج، ووفود الأنصار، والهجرة إلى المدينة.
ثم ساق المغازي على ترتيبها، ثُمَّ الوفاة، فهذا آخر هذا الباب، وهو من جملة تراجم الأنبياء، وختمَها بخاتم الأنبياء - صلَّى الله عليه وسلَّم"[2].
الفوائد المستخلصة:
الفائدة الأولى: قدمت "صحيح البخاري" على سائر أمَّهات كتب الحديث؛ لسببين اثنين:
الأوَّل: ضبط حقيقة المصطلح مبنِيٌّ على منهج التصنيف في الفنِّ الذي يدلُّ عليه، ودقَّة تبويب مباحثه، وترتيب فصوله، ولا يخفى أنَّ شأو البخاريِّ في ذلك بلغَ قدْرًا لا يُساوَى، وحَظًّا ليس وراءه مطلَعٌ لناظر، ومن عرف رتبة تراجمه البديعة، وانفراده عن نظرائه بالتَّدقيق والتحقيق فيها، عرف سرَّ تقدُّمِه.
الثاني: لقد ضمَّن الأئمة أصحابُ السُّنن مصنفاتِهم طائفةً معتبرة من مرويَّات السِّيرة النبوية، لكن "صحيح الإمام البخاري" أغناها، وأضبَطُها، وأوفَرُها على هذه المادة[3]؛ مع ضِيقِ شرطه - رحمه الله - ومن لطائف التفرُّد في منهجه، ومناسبته لما نستشهد به لأجله دقَّة عنوان صحيحه: "الجامع الصَّحيح المُسنَد من حديث رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسُننِه، وأيامه"[4]، أو "الجامع المسنَد الصحيح المختصر، من أمور رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وسننه، وأيامه"[5].
وأدَقُّ ما في هذا العنوان، وأنسَبُه للمراد: تخصيص الأمور النبويَّة، والأيامِ النبويَّة بالذِّكْر مع دخولهما تحت عموم الحديث النبوي، والسنن النبوية.
الفائدة الثانية: أطلق البخاريُّ - رحمه الله - لفظ "المَناقب"؛ ومُراده "السِّيرة النبوية"، ولفظ "المَناقب" أوسع من لفظ "المَغازي" المستعمَل في كلام الإمام الحاكم[6]، فالمناقب: جمع منقبة، وهي "الطريق الضيِّق بين دارين، لا يُستطاع سلوكه"[7]، وهي "الطريقُ الضَّيِّقُ فِي الجَبل والطريق التي تَعْلو أنشاز الأرض"[8]، ورجلٌ نقَّاب: "نافذٌ في الأمور، وذو مناقب، وهي المخابر، والمآثر"[9].
قال الرَّاغب: "واستُعِير لفِعْل الكريم؛ إمَّا لكونه تأثيرًا له، أو لكونه منهجًا في رفعه".
وهذا توجيهٌ غايةٌ في السَّداد؛ لاشتماله على نكتتَيْن دقيقتين:
الأولى: الإشارةُ إلى مقصد السِّيرة النبويَّة، وهو: التنويه بمكان صاحبِها - صلَّى الله عليه وسلَّم - من علُوِّ القدر، ورفيع المنْزِلة.
والثانية: الإشارة إلى نفس حال السِّيرة النبوية؛ إذْ إنَّها كالمنهج من جهةِ جلائها واتِّساقها.
ولكلِّ نكتة من النكتتَيْن مناسَبةٌ لِما حمَلْنا عليه إطلاقَ البخاريِّ - رحمه الله - فكأنَّه عدلَ عن مسمَّى المصطلح (السِّيرة) إلى ذِكْر لازمه (المناقب)، وهذا من بديع صنيع البخاريِّ في تراجمِ "صحيحِه" جملة؛ فإنَّ ما يجمع بين أبواب "صحيحه" ومُتونها من وجوه المناسبات غاية في الدِّقة والخفاء.
فالمَناقب النبويَّة غُرَّة السِّيرة النبوية، وأدَلُّ ما فيها على كمال فضلها، وأحثه للنَّفس على مزيد التعلُّق بصاحبها - صلَّى الله عليه وسلَّم - ومزيد محبَّتِه.
وإذا كان تعظيمُ قدْرِ النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - غايةَ معرفةِ سيرته، فحُبُّه أكمل ما يحمل عليه تعظيمُه من المعاني، وأجَلُّ ما يقتضيه من المرامي، لا سيَّما وأنَّ الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا متنافِسين في التوسُّل إلى الله تعالى بمحبَّتِه؛ كما وقع يوم بدر لما كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يعدِّل صفوفَ أصحابه بقِدْح[10] في يده، فمرَّ بسواد بن غزيَّة - رضي الله عنه - وهو مُستنتل[11] من الصفِّ، فطعن في بطنه بالقِدح، وقال: ((استَوِ يا سواد!))، فقال: يا رسول الله أوجعتَني، وقد بعثك الله بالحقِّ والعدل، فأقِدْني!
فكشف رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن بطنه، وقال: ((استقد!))، فاعتنَقه، فقبَّل بطنه.
فقال: ((ما حَملَك على هذا يا سوَاد؟))، قال: يا رسول الله، حضرَ ما ترى، فأردتُ أن يكون آخر العهد بك أن يمسَّ جلدي جلدك، فدعا له رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بخير، وقال له: ((استَوِ يا سواد))[12].
فهذا من أعظم فقهٍ يكون لتعظيم النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - والتنافس في جلب محبَّتِه به، والبُرهان على قصد البخاريِّ إيَّاه أنَّ فُصول السِّيرة النبويَّة عنده مُكتَنفة بين كتاب "أحاديث الأنبياء"، وكتاب "التفسير"، وجِماعها أبواب "المناقب"، و"علامات النبوَّة"، و"فضائل الصَّحابة"، و"مناقب الأنصار"، و"المَغازي".
فجعلَ - رحمه الله - المناقبَ النبويَّة غُرَّةَ هذه الفصولِ المُباركة جميعًا، وطلعتَها، وغرَّة الشيء أكرَمُه، بل لو نظر المرء في كلِّ خبَرٍ من الأخبار المؤلِّفة لأبواب هذه الكتب لألفاه منقبةً من مناقب النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشميلةً من شمائله.
انتهى، ويليه القسم الثاني - إن شاء الله - مبدوءًا بالفائدة الثَّالثة، والله المستعان.
وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّد، وآله وصحبه وسلَّم.
[1] ورد في بعض شروح الصحيح أن البخاري قال: (كتاب المناقب)، وما اعتمدته هو الثابت في أصول الصحيح كما حققه الحافظ في "الفتح" (6/ 526)، وهو الأنسب لما قرره: أن (المناقب من جملة أبواب كتاب أحاديث الأنبياء).
[2] "فتح الباري" 6 / 526.
[3] "مصادر السيرة النبوية": ص37.
[4] كذا قال الحافظ في "هدي الساري": ص 8.
[5] كذا قال النووي في فاتحة شرحه للصحيح، انظر: شروح البخاري: ص 7.
[6] "دلالة مصطلَح السِّيرة بين ابن هشام والحاكم"، مقال نشر في موقع الألوكة؛ هذا رابطه:
[7] "اللسان": نقب.
[8] نفسه.
[9] "أساس البلاغة": ص 649 - 650.
[10] القِدْح - بكسر القاف -: السهم قبل أن يُراش، والقَدَح - بالتَّحريك -: الآنية تَروي الرجلين؛ "القاموس المحيط": قدح.
[11] أصله: نتل؛ وهو الجذب إلى قدام، ومعناه هنا: تقدَّم دون الصف.
[12] "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (6 - 2 - / 808)، رقم الحديث 2835