دروس من سرية ذات السلاسل
***
علم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد عودة سرية مؤتة إلى المدينة سنة ثمان للهجرة، أن قضاعة التي اشتركت في القتال إلى جانب الروم، بدأت تتجمع تريد الاقتراب من المدينة لتهديدها، ومحاولة القضاء على المسلمين بعد أن غرها ما حدث للمسلمين في مؤتة ..
فجهز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية من ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وأمَّر عليها عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بهدف أن يقضي على خطر قضاعة في مهده .
عن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ قال: (بعث إليَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأمرني أن آخذ علي ثيابي وسلاحي ثم آتيه . قال: ففعلت، ثم أتيته وهو يتوضأ، فصعد في البصر ثم طأطأ، ثم قال: يا عمرو إني أريد أن أبعثك على جيش فيغنمك الله ويسلمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة، قال: فقلت: يا رسول الله إني لم أسلم رغبة في المال، ولكني أسلم رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فقال: يا عمرو نعم المال الصالح للرجل الصالح ) ( أحمد ) .
وأمر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمرو بن العاص بأن يستعين بمن مر به من بلاد بَلِي وعُذْرَةَ وبَلْقَيْنِ . فانطلق عمرو ـ رضي الله عنه ـ في ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، وأمر بالسير بالليل والراحة بالنهار، فلما اقترب من مكان تجمع الأعداء، بلغه أن لهم جموعاً كثيرة، فبعث رافع بن مَكِيثٍ الجُهَنِي إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستمده، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، فيهم أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ، وعقد له لواء، وأمره أن يلحق بعمرو ، وأن يكونا جميعاً ولا يختلفا .
واصل عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ السير، حتى وطئ بلاد قُضَاعَة وتوغل في ديارهم، ولقي جمعا منهم، فحمل عليهم المسلمون وقاتلوهم، فهربوا في البلاد متفرقين مذعورين منهزمين .
فبعث عمرو ـ رضي الله عنه ـ عوف بن مالك الأشجعي بريداً إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ليخبره برجوعهم وسلامتهم، وما كان في غزاتهم .
وسُميت هذه السرية بذات السلاسل، لأن المسلمين نزلوا على ماء يقال له: السلسل ..
ومع ما حققته هذه المعركة من أهداف على الصعيد الميداني، فقد أسهمت كذلك في إبراز عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ كشخصيّة عسكرية فذّة، وقيادة حكيمة، كان لها دورها في الفتوحات الإسلامية بعد ذلك .
ومن ملامح شخصيته ـ رضي الله عنه ـ :
إخلاصه لله عز وجل، وقوة إيمانه ويقينه، وحبه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، يظهر ذلك في قوله ـ رضي الله عنه ـ: " ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ " .
كذلك حكمته وخبرته العسكرية ـ رضي الله عنه ـ وقد ظهر ذلك من خلال بعض المواقف في هذه السرية .
ففي إحدى الليالي حاول بعض الجنود إشعال النيران ليتقوا بها من شدة البرد، فنهاهم عمرو ـ رضي الله عنه ـ عن ذلك أشدّ النهي، فشكى الناس إلى أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ شدّة عمرو ، فذهب إليه وكلّمه ، لكنَّ عمرو ـ رضي الله عنه ـ أصرّ على رأيه ومنعهم، معتمداً في ذلك على عمق فكره العسكري، وخوفهً من وقوع مفسدة أعظم من تلك المصلحة وهي أن يمتد ضوء النار فيكشف المسلمين - وهم قلة - لأعدائهم فيهجموا عليهم .
وكان يسير ليلا، ويختفي ويستريح نهارا، وقد حقق بذلك أمرين مهمين: إخفاء تحركاته عن عدوه، وبذلك يضمن سلامة قواته، وحماية الجند من حر الشمس، وفي ذلك حماية وتقوية وعونا لهم على القتال ..
ومن فقهه - رضي الله عنه ـ في هذه السرية ما حدث به حين قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال، وقلت: إني سمعت الله يقول: { وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } (النساء: من الآية29)، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئاً ) ( أبو داود ).
وقد استُنبط العلماء من ذلك : أن التيمم يقوم مقام الغسل بالنسبة للجنب مع وجود الماء إذا خشي أن يؤدي استخدام الماء إلى الضرر، فلقد تيمم عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ لما أصبح جنباً مع وجود الماء عنده وصلى، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه .
لقد مكنت هذه السرية الناجحة ـ مع صغرها ـ من استعادة هيبة المسلمين في شمال الجزيرة، بعد أن تزعزعت في أعقاب سرية مؤتة، كما بسطت هيبة الدولة الإسلامية، وكسرت عصا التمرد التي طالما أشهرتها بعض القبائل العربية الموالية للروم .
وأسهمت كذلك في إسلام الكثير من أهالي بني مرة، وبني ذبيان،، وكذلك فزارة وسيدها عيينة بن حصن ، وتبعها بنو سُلَيم، وعلى رأسهم العباس بن مرداس ، وبنو أشجع، ومن ثم أصبح المسلمون هم الأقوى في شمال بلاد العرب ..