بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وأصحابه، والسالكين سبيله، والداعين بدعوته إلى يوم الدين، وبعد،،،
-منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في غرس الروح الجهادية في نفوس أصحابه-
فقد سمعنا.. وقرأنا في سيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما كان شيء أحب إلى نفوسهم بعد الله ورسوله، سوى الجهاد في سبيل الله، أجل.. لقد أحب هؤلاء القوم الجهاد في سبيل الله، وتعلقوا به، وتطلعوا إلى آثاره، فكان حلم اليقظة، ورؤيا المنام، منتهى أمنية الصغار والكبار، والنساء والرجال، والضعفاء والأقوياء، المرضى والأصحاء:
- هذان ولدان صغيران يقال لهما أبناء عفراء، يحكى عنهما عبد الرحمن بن عوف يوم بدر فيقول: "إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني، وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: "يا عم أرني أبا جهل"، فقلت: "يا ابن أخي ما تصنع به؟"، قال: "عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه"، وقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله، قال: فما سرني أنني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه، وهما ابنا عفراء"[1].
- وهذا شيخ كبير طاعن في السن، يقال له خيثمة أبو سعد بن خيثمة، يقول للنبي صلى الله عليه وسلم وهو يشاورهم يوم أحد: "يا رسول الله لقد أخطأتني وقعة بدر، وقد كنت حريصاً عليها، لقد بلغ من حرصي أن ساهمت ابني في الخروج، فخرج سهمه، فرزق الشهادة، وقد كنت حريصاً على الشهادة وقد رأيت ابني البارحة في النوم في أحسن صورة، يسرح في ثمار الجنة، وأنهارها، وهو يقول: "الحق بنا ترافقنا في الجنة، فقد وجدت ما وعدني ربي حقا"، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنة، وقد كبرت سني ورق عظمي، وأحببت لقاء ربي، فادع الله يا رسول الله أن يرزقني الشهادة، ومرافقة سعيد في الجنة" فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقتل بأحد شهيداً"[2].
- وهذا شيخ أعرج شديد العرج، يقال له عمرو بن الجموح، كان له بنون أربعة مثل الأسد، يشهدون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشاهد، فلما كان يوم أحد أرادوا حبسه، وقالوا أن الله قد عذرك، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أن بني يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فوالله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك»، وقال لبنيه: «ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة»، فخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم فقتل يوم أحد رضي الله تعالى عنه[3].
- وهذه امرأة أنصارية يقال لها أم عمارة، تحكى عنها ابنة أختها أم سعد بنت سعد بن الربيع فتقول: دخلت على أم عمارة، فقلت لها: "يا خالة أخبريني خبرك"، فقالت: "خرجت أول النهار أنظر ما يصنع الناس، ومعي سقاء فيه ماء، فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والدولة والريح للمسلمين، فلما أنهو المسلمين انحزت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت أباشر القتال، أذب عنه بالسيف، وأرمي عن القوس، حتى خلصت الجراح إلي"[4].
- وهذا امرأة عمرو بن الجموح تقول عنها عائشة: "خرجنا من السحر مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد نستطلع الخبر، حتى إذا طلع الفجر إذا رجل محتجر يشتد ويقول:
ليث قليلاً الهيجا حمل ما أحسن الموت إذا حان الأجل
قالت: فنظرنا فإذا أسيد بن حضير، ثم مكثنا بعد ذلك، فإذ بعير قد أقبل عليه امرأة بين وسقين، قالت، فدنونا منها فإذا هي امرأة عمرو ابن الجموح، فقلنا لها: "ما الخبر؟"، قالت: "دفع الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتخذ من المؤمنين شهداء، ورد الله الذين كفروا بعيظهم لم ينالوا خيرا، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويا عزيزاً"، ثم قالت لبعيرها: "حل، ثم نزلت"، فقلنا لها: "ما هذا؟"، قالت: "أخي وزوجي"[5].
- وهذا عمير بن أبي وقاص، يقول عنه أخوه سعد بن أبي وقاص: "رأيت أخي عمير بن أبي وقاص قبل أن يعرضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لخروج بدر، يتوارى، فقلت: "مالك يا أخي؟"، قال: "إني أخاف أن يراني رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستصغرني، فيردني، وأنا أحب الخروج، لعل الله يرزقني الشهادة"، قال: فعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستصغره فقال: "ارجع"، فبكى عمير، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال سعد: "فكنت أعقد له جمائل سيفه من صغره"، فقتل ببدر، وهو ابن ست عشرة سنة، قتله عمرو بن ود"[6].
- وأثر عن خالد بن الوليد- رضي الله تعالى عنه- قوله: "ما ليلة تهفى إلى بيتي فيها عروس أنا لها محب، وأبشر فيها بغلام بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المجاهدين، أصبح فيها العدو"[7].
- وجاء عن أبي طلحة أنه قرأ سورة براءة، وأتى على قوله تعالى: {انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً} [سورة التوبة: 41]، فقال: "لا أرى ربنا إلا يسنفرنا شباباً وشيوخاً، يا بني جهزوني"، فقالوا له: "يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات، ومع عمر- رضي الله تعالى عنه- حتى مات، فدعنا نعزو عنك"، قال: "لا، جهزوني"، فغزا البحر، فمات في البحر، فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام، فدفنوه بها، وهو لم يتغير"[8].
هذا وغيره كثير، سمعناه، وقرأنا عنه. ولا شك أن السبب الرئيس في كل هذا الذي سمعناه، وقرأنا عنه: إنما يرجع إلى المنهج الحكيم الذي سلكه صلى الله عليه وسلم في غرس الروح الجهادية في نفوس هذا الصحب الكريم من البشر.
وإذا كانت الأمة الإسلامية اليوم تحاول الخروج من المأزق الذي تعيشه وتعاني منه، فإن عليها أن تعود إلى سيرة وسنة رسول الله صلى الله لعيه وسلم لتقف على أبعاد ومعالم هذا المنهج الذي اتبعه هذا الرسول الكريم في غرس روح الجهاد هذه في نفوس أصحابه أول مرة، ولعلها بعد فقه هذا المنهج تلين منها الجلود، وترق منها القلوب، فتسعى جاهدة لتبوأ ما كان لها من منزلة، وتسترد ما كان لها من مجد.
من هذا المنطلق، كانت هذه الدراسة:
" منهج الرسول - صلى الله عليه وسلم - في غرس الروح الجهادية في نفوس أصحابة"
أقدمها في استحياء من الله العظيم، ومن رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم إذ لا زالت النفس متعلقة بالدنيا، كارهة للموت، عل هذه النفس تنتبه من غفلتها، وتفيئ إلى رشدها، فتدرك أن الحياة الدنيا- بزهرتها وزينتها- ما هي إلا سراب خادع، وأن ما عند الله خير وأبقى: {وَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [سورة القصص: 60][9].
--------------------------------------------------------------------------------
[1] الحديث أخرجه البخاري في: الصحيح: كتاب المغازي: باب منه 5/100 من حديث عبد الرحمن بن عوف به، وأورده ابن كثير في: السيرة النبوية 2/442، عازيا إياه إلى البخاري.
[2] انظر: المغازي للواقدي: باب غزوة أحد 1/212-312.
[3] انظر : السيرة النبوية لابن كثير 3/73-74
[4] انظر السيرة النبوية لابن كثير 3/67
[5] انظر: السيرة النبوية لابن كثير 3/82-83
[6] انظر: الطبقات الكبرى لابن سعد 3/149-150
[7] الحديث أورده الهيثمي في: مجمع الزوائد: كتاب النماقب: باب ما جاء في خالد بن الوليد -رضي الله عنه- 9/350 من حديث قيس بن أبي حازم به وعقب عليه بقوله: "رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح"، وعنه نقل الشيخ: محمد يوسف في: حياة الصحابة 1/437-438.
[8] الحديث أورده ابن عبد البرفي: الاستيعاب 1/550 من حديث أنس به، وأورد ابن سعد في: الطبقات الكبرى 3/507 من حديث أنس أيضاً بنحوه.
[9] سورة القصص: 60.
بقلم فضيلة الشيخ أ.د. سيد نوح رحمه الله