بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
وبعد ...
الإعجاز الأسلوبي في سورة يوسف
بقلم ياسر محمود الأقرع
لم يكن أسلوب التوكيد في كلام العرب – على كثرته - لوناً من ألوان الزينة، أو شكلاً من أشكال الحشو الذي يرهق النص ويثقله بما لا فائدة منه ولا جدوى. وإنما هو ركن من أركان البناء اللغوي والبياني الذي ذخرت به النصوص العربية شعراً ونثراً. فالعرب لا تؤكد كلامها إلا إذا كان المخاطب في حاجة إلى ذلك، وتأتي بمؤكد واحد إن كان المخاطب متردداً في تصديق ما يقال أو ظنَّ ذلك منه، في حين تأتي بأكثر من مؤكد _ وقد تشفع ذلك بالقسم _ إن كان المخاطب منكراً ما يسمع كل الإنكار أو ظنَّ منه ذلك.
سنتوقف في بحثنا هذا أمام آيات من سورة يوسف (عليه السلام) نعرض خلالها مواقف من القصة، في محاولة منا لتلمس الوجه البياني الذي يمثله أسلوب التوكيد في السورة.
ولنقف قبلاً أمام قوله تعالى (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وفيه أول ما جاء مؤيداً بالتوكيد في سورة سيدنا يوسف (موضوع بحثنا).
ذكر الله تعالى إنزال القرآن مؤكداً بـ (إنَّ)ذلك أن كفار مكة - ومنهم اليهود الذين سألوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أن يقص عليهم قصة يوسف (عليه السلام) - كانوا يطعنون بصدق نبوته، وبأن القرآن هو كتاب منزل من الله تعالى. لذلك، وقبل البدء في القصة التي طلبوا سماعها من رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، جاء ذكر إنزال القرآن بأنه من عند الله مؤكداً بـ (إنَّ)، لنفي ما زعموه، وتسفيه ما ظنّوه.
أضف إلى ذلك أن إنزال القرآن الكريم على النبي (صلى الله عليه وسلم) أمر غيبي، والغيبيات تحتاج إلى ما لا تحتاجه المحسوسات من التوكيد، إذ يأتي التوكيد - عند ذكرها - رفعاً للشبهة ودفعاً للظنّ، ودرءاً للخاطر إن جاء مشككاً أو منكراً.
وانظر في قوله تعالى (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) وقد جاء دون توكيد، إذ الأمر هنا ليس أمراً غيبياً، بل هو أمر محسوس يحمل في ذاته دلائل مصداقيته، وذلك في قصص القرآن الكريم كلها ومنها قصة يوسف (أَحْسَن الْقَصَصِ)، فلا حاجة إذاً للتوكيد، ما دام المثال ظاهراً، والدليل قائماً.
ولما أراد الله تعالى أن يخبرنا أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم يكن يعرف شيئاً عن قصة يوسف (عليه السلام) جاء بلام التوكيد في قوله
وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ) وذلك دفعاً لأي شك أو تردد في شأن معرفة النبي (صلى الله عليه وسلم) بهذه القصة قبل نزول القرآن عليه، فأكد غفلته عن الأمر تأكيداً لا يغضّ من قدر رسوله، بل يدل على صحة نبوته وصدق دعوته (صلى الله عليه وسلم) .
مواقف في قصة سيدنا يوسف والأثر البلاغي لأسلوب التوكيد فيها:
رؤيا يوسف (عليه السلام)
(يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)
بهذا أخبر سيدنا يوسف أباه عن أمر رؤياه، وجاء بكلامه مؤكداً بـ (إنّ)، ثم بتكرار فعل الرؤيا مرتين (رأيت _ رأيتهم). وجاء هذا التوكيد في معرض الحديث عن أمر غير مألوف، فيه من الغرابة ما يُخشى معه أن يشك السامع في صدق ما يسمع، لذا جاء ذكر الرؤيا مقترناً بالتوكيد (إني رأيت _ رأيتهم) دفعاً لشك قد يخامر سيدنا يعقوب في صدق ما يقوله هذا الغلام الصغير.
ويؤول سيدنا يعقوب رؤيا ابنه، ويطلب منه ألا يخبر إخوته بالأمر...
إخوة يوسف يكيدون له
ها هم إخوة يوسف يتشاورون في أمره (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنّا). وجاؤوا بقولهم هذا مؤكداً بمؤكد واحد (اللام في ليوسف). ثم أكّدوا قولهم (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) بمؤكدين (إنَّ _ اللام في لفي). وإخوة يوسف ليس بينهم من يشك أو يتردد في أن يوسف وأخاه أحب إلى أبيهم منهم، ولا بينهم منكر أن أباهم في ضلال مبين. فلماذا إذاً جاء الكلام مؤكداً وهم في غير حاجة إلى توكيد ما هم متفقون عليه ومجتمعون بسببه!؟
إن مجيء الكلام مؤكداً في قولهم (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا) يؤسس لاقتراح غريب سيطرحونه، وصولاً إلى قرار جريء سيتفقون عليه، وهو التخلص من أخيهم يوسف.
لذا أرادوا تأكيد الأسباب المؤدية إلى هذا الاقتراح حتى يبدو اقتراحاً مقبولاً، له أسبابه ودوافعه. فبدؤوا بتوكيد أمر محبة أبيهم أخاهم يوسف بمؤكد واحد (لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا)، ثم صعّدوا الموقف بتوكيدين (إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) ليأتي عقب ذلك مباشرة قولهم: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ).
ولولا ما قدموه من أعذار مؤكدة، غير قابلة للشك (في زعمهم)، ما كان اقتراحهم (قتل أخيهم) أمراً مقبولاً.
من هنا كان لابدّ - وصولاً إلى هذا الاقتراح - من توكيد الأسباب المؤدية إليه!!
وربّ قائل يقول: إن وجود المؤكد، والمؤكدين في قول إخوة يوسف يدل على وجود متردد أو منكر بينهم، فهل ثمة منكر أو متردد فيما كانوا يسوقونه من أعذار تسول لهم قتل أخيهم؟
نعم، إن عقولهم تنكر ما تقوله ألسنتهم، وليس أدلّ على ذلك من اعترافهم (وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ). إذاً ما يتفقون عليه وينوون فعله تنكره عقولهم، كونه – باعترافهم - ليس من الصلاح، وجاء هذا على ألسنتهم بإقرار واضح، وتصريح فاضح.
بين سيدنا يعقوب وأولاده
لما اتفق إخوة يوسف على إلقاء أخيهم في غيابة الجب، ولم يبق أمامهم إلا إقناع أبيهم بأخذه، ذهبوا إليه و(قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ) وفي قولهم هذا مؤكدان: (إنّ _ اللام في لناصحون)، فهل يحتاج إقرارهم بالنصح لأخيهم إلى توكيدين؟
ثم قالوا: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وهنا جاؤوا كذلك بمؤكدين، فهل يحتاج أمر حفظهم لأخيهم مؤكدين أيضاً (إنّ _ اللام في لحافظون)؟
إن مجيء قضيتي (النصح – الحفظ) مقترنتين بالتوكيد يعني أن سيدنا يعقوب (عليه السلام) كان منكراً للمضمون الذي جاء فيهما، ويبدو أن إخوة يوسف عرفوا ذلك عن أبيهم، وأيقنوا عدم ثقته بهم، فجاؤوه بهذه المؤكدات رغبة في إقناعه بصفاء نيتهم، وصدق ادّعائهم. وليس أدلّ على ذلك من قولهم (مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) ففيه إقرار منهم بعدم ثقة أبيهم بهم.
فإخوة يوسف كانوا إذاً في معرض الشبهة من وجهة نظر سيدنا يعقوب وقد عرفوا ذلك وأيقنوه فاحتاجوا إلى توكيد خطابهم.
وتأمل رد سيدنا يعقوب على أولاده حين (قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ) وجاء هنا بمؤكدين
(إنَّ _ اللام في ليحزنني)(وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) وجاء بالجملة دون توكيد.
فأية دلالة يحملها وجود التوكيد في الجملة الأولى وغيابه عن الجملة الثانية؟
أكد سيدنا يعقوب حزنه لذهاب إخوة يوسف به، لأحد أمرين:
إما أن يكون ذلك رداً على قولهم (مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) فأراد بتوكيد الحزن دفع ما ظنوه من عدم الثقة بهم، فأكد لهم أن سبب ذلك إنما حزنه على فراقه لا الخوف منهم عليه.
أو أنه أراد أن يؤكد لهم: إن حزني لا بسبب بعده عني، بل بسبب ذهابكم به، فذهابكم به هو الخطوة الأولى التي تتيح لكم الإساءة إليه. فأكد حزنه على ذهاب يوسف معهم لأن ذهابه معهمهو الذي سيجلب عليه الحزن والهم. أَوَلم يقل سيدنا يعقوب فيما بعد (إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ) إنه الحزن ذاته الذي ذكره – متخوفاً - عند ذهاب يوسف مع إخوته.
وسيدنا يعقوب(عليه السلام) لم يؤكد خوفه على يوسف من أن يأكله الذئب لأنه كان على ثقة بأن ذلك لن يحدث،فسيّدنا يوسف قد اجتباه الله لحمل رسالته، وسيعلمه من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليه(حسب تفسير الرؤيا) ولا سبيل إلى ذلك كله إن أكل الذئب يوسف(عليه السلام)، لذا جاء كلامه حول هذا الأمر دون توكيد، وإنما ساق هذا العذر (خوفه على يوسف من الذئب) ليدفع عن أولاده ظنّهم عدم الثقة بهم، لعل هذا العذر يتيح له إبقاء يوسف عنده.
الغريب في الأمر أن إخوة يوسف تركوا قضية حزن أبيهم على فراق يوسف (وهي مؤكدة) وردّوا على قضية خوفه من أن يأكله الذئب، التي جاءت دون توكيد فـ (قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ) وتأمل مؤكدات الجملة:
(لئن)ويرى النحاة أنها تدل على قسم محذوف، و (إنَّ) واللام في قولهم (لخاسرون). وهذه المؤكدات كلها جاءت في معرض الردّ على تخوّف أبيهم من أن يأكل الذئب يوسف، فأفرطوا في توكيد نفي حدوث هذا الأمر حتى يطمئنوا أباهم فيرسل أخاهم معهم.
ولعل في هذه المؤكدات ما يدل على أنهم بيّتوا هذا العذر من قبل، وذلك وقت اتفاقهم على طريقة التخلص من أخيهم، فلما لامس سيدنا يعقوب - بذكره الخوف من الذئب - ما كانوا بيّتوه في أنفسهم، جاء ردّهم أكثر توكيداً في نفي حدوث هذا الأمر، إذ من غير المعقول أن يتفق إخوة يوسف (عليه السلام) على كيفية التخلص منه، دون الاتفاق على ما سيقولونه لأبيهم عند عودتهم إلى البيت دون أخيهم، وربما اقتضى البيان الإلهي عدم ذكر اتفاقهم هذا كونه سيأتي فيما بعد في سياق القصة، فلا حاجة لتكراره... والله أعلم.
تأتي لحظة إلقاء يوسف (عليه السلام) في غيابة الجب، وهو طفل صغير، ويأتي وحي الله مبشراً إياه بالنجاة من محنته (وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَـذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ) وقد جاءت البشرى مؤكدة بقسم محذوف قبل (لتنبئنّهم) دلت عليه اللام الواقعة في جواب القسم، كما جاء الفعل مؤكداً بنون التوكيد الثقيلة، وما هذه المؤكدات في هذا الوقت الحرج إلا زيادة في بث الطمأنينة في نفس يوسف بأن نجاته من محنته أمر كائن لا محالة، وتوكيد الأمر أدعى إلى الثقة والاطمئنان.
ويرجع إخوة يوسف حاملين إلى أبيهم عذرهم (قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)، ولئن جاء ذكر ذهابهم للاستباق مؤكداً بـ (إنّ) فإن الجملة ما دون ذلك خلت من المؤكدات. ويبدو الأمر غريباً، إذ كيف لا يكون عذرهم حافلاً بالمؤكدات، في قضية يقف فيها أبوهم موقف المنكر،غير المصدّق، ويقفون أمامه موقف المذنب الذي يحتاج إلى إثبات باطل أتى يحمله!؟
في ذلك نقول: إن إخوة يوسف كانوا واثقين من أن وسائل التوكيد، التي قد يلجؤون إليها في كلامهم، عاجزة عن إقناع أبيهم بما جاؤوا به، ولذلك اتبعوا قولهم (فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ) قولهم (وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) أي لن ينفعنا أن نؤكد كلامنا أو نشفعه بالقسم، دعماً لحجتنا وتأييداً لقولنا، لذا (جَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) أي هذا دليل ملموس (حسب زعمهم) لعله _ مع نفاد الحجج الكلامية _ يقنع أباهم بما يزعمون. وبما أنهم حملوا دليلاً محسوساً، فلا حاجة إذاً لوسائل توكيد القول التي لن تجدي _ في هذه القضية _ نفعاً أو تؤيد _ في هذا الموقف _ قولاً.
وجاءت سيارة، وحُمل يوسف (عليه السلام) إلى مصر، ليباع عبداً، وينشأ في بيت العزيز.
يوسف (عليه السلام) وامرأة العزيز
ولما بلغ أشده أخذت امرأة العزيز تراوده عن نفسه،غير أن سيدنا يوسف الذي اجتباه الله لحمل رسالته ما كان له أن يقع في الخطيئة فـ (قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ)، وقد جاء ردّه هذا مؤكداً بـ (إنّ)في موضعين:
إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ: إن سيدي أكرمني وأحسن إقامتي عنده وأنعمعليّ. وتمثل هذه الجملة (المقدمات)
إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ: إنّ الإساءة إلى من أحسن إليّ ظلم،عاقبته الخيبة والخسران.وتمثل هذه الجملة (النتائج).
و القولان جاءا مؤكدين بـ (إنّ).
إذاً، إن المقدمات التي جاءت مؤكدة لا شك ستفضي إلى نتائج مؤكدة أيضاً. وهذا كله من باب إقناع امرأة العزيز بالحجة والمنطق، وهو في الآن ذاته شريعة الله القائمة على العدل، ولو خلت إحدى الجملتين من التوكيد لاختلّ التوازن بين المقدمات والنتائج.
لكن امرأة العزيز أصرّت على ما عزمت عليه (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ) والجملة مؤكدة بـ (لقد) التي تدل على قسم محذوف قبلها، وهذا التوكيد المؤيد بالقسم دليل على أن الأمر قد حدث دون شك، وأنّ امرأة العزيز قد همّت بيوسف حقيقة.
ويأتي قوله تعالى (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) وهذه الجملة تنفي الأمر عن سيدنا يوسف من ناحيتين:
الناحية الأولى: وجود لولا التي تعني أن أمر (الهمّ) لم يحدث أصلاً. فقولنا: لولا المطر يبس الزرع. لا يعني أن الزرع قد يبس بحال من الأحوال!؟
وقوله تعالى (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) يعني أيضاً أن الهم لم يحدث أصلاً.
وقد ذهب بعض النحاة إلى أن جواب لولا في الآية محذوف، وما قبلها ليس جواباً، إذ لا يصح أن يأتي جواب لولا قبلها. وقد خالف نحاة آخرون هذا الرأي.
وعلى أية حال نقول: إنما حذف جواب لولا – إن اتفقنا مع أصحاب هذا الرأي – لدلالة ما قبلها عليه، ومن ثم فالمحذوف يحمل الدلالة ذاتها، وهذا يتفق والمعنى الذي نذهب إليه... بأن الهم لم يحدث من جانب سيدنا يوسف.
أما الناحية الثانية: فهي مجيء فعل (الهمّ) في قوله تعالى (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) دون توكيد، على غير ما جاء به الفعل المنسوب إلى امرأة العزيز (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ)، إذ جاء مؤكداً كما ذكرنا آنفاً، وهذا يدل على أن الأمرين غير متماثلين، وإلا فما الدلالة التي يحملها توكيد الفعل الأول، وعدم توكيد الفعل الثاني إن كان الفعلان متساويين.
ولما استبقا الباب، ووجدا العزيز لديه بادرت امرأة العزيز فـ (قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
نلاحظ أن كلام امرأة العزيز هنا لم يأت مؤكداً، على الرغم من أن الموقف يتطلب ذلك، فأية دلالة يحملها هذا الأمر!؟
إذا كان الكلام المؤكد يراد منه إزالة التردد أو الإنكار من نفس المخاطب، فإن الأمر عند العزيز لم يدخل بعد حيز التفكير حتى يشكك فيما يسمع أو ينكره، فأرادت امرأته أن تبادره بقولمصبوغ بصبغة الحقيقة الواقعة، بلسان الواثق من نفسه. ولو جاءت – في قولها - بمؤكدات لوضعت نفسها في موضع المتهم المدافع عن نفسه... وهي لم ترد ذلك، بل أرادت وضع نفسها في موضع المدّعي،لتجعل يوسف (عليه السلام) في موضع المتهم الذي يضطر إلى أساليب التوكيد- على اختلافها- دفاعاً عن نفسه، وردّاً للتهمة، ونفياً لها... فالبيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر.
ولعل امرأة العزيز لم تكن تحفل بموقف زوجها من الأمر، ولا يهمها إن اقتنع ببراءتها أملا، فهي لا تحتاج والحالة هذه إلى توكيد الأمر لدفع الشبهة لدى زوجها (إن وجدت).
ودليلنا على ذلك أن امرأة العزيز عادت إلى مراودة يوسف عن نفسه أمام جمع من النسوة دون أن تقيم لزوجها وزناً أو تحسب له حساباً، ولو كانت تخشاه لما أقدمت على ذلك.
وعلى أيّ وجه كان الأمر، فإن سيدنا يوسف (عليه السلام) (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) هكذا دون توكيد، فلم يضع نفسه في موقف المتهم المدافع عن نفسه، ولم يأت جوابه بنفي الأمر الذي اتهمته به، فلم يقل مثلاً: (لم أرد بأهلك سوءاً) وإنما ردّ الاتهام بمثله (من وجهة نظر العزيز)، وأجاب بلهجة واثقة (هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي).
الطرفان إذاً امرأة العزيز ويوسف (عليه السلام) كل منهما يتهم الآخر، وليس ثمة بيّنة إلا قميص يوسف الذي قُدَّ من دبر. لكن الاحتكام إلى هذا الأمر لو جاء على لسان يوسف (عليه السلام) لكان رأيه في معرض المدافع عن نفسه، وقد لا يُقبل اقتراحه هذا فـ (شَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا ) وجاءت شهادته نقضاً لادعائها، وتثبيتاً لقول يوسف (عليه السلام) وتنزيها له مما اتهم به بهتاناً وزوراً.
وتعود امرأة العزيز إلى ما عزمت على فعله، وعلى مرأى ومسمع النسوة اللواتي كنَّ يلمنها على مراودتها يوسف عن نفسه (قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ)
انظر إلى توكيدها أمر مراودة يوسف عن نفسه (لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ).
وقد جاء هذا التأكيد بعد إدراكها أن النسوة قد رأين في حُسْنِ يوسف عذراً مقبولاً لما أقدمت على فعله، فلم يعد ثمة حرج إذاً في توكيدها الإقدام على هذا الأمر.
ثم تقول (وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ) لقد حمل كلامها تهديداً ووعيداً، وجاء حافلاً بالمؤكدات التي تصور عزمها على إنفاذ تهديدها فأكدت بـ (لئن) الدالة على قسم محذوف قبلها، وبـاللام ونون التوكيد الثقيلة في (ليسجننّ)، واللام ونون التوكيد الخفيفة في (ليكونن).
رأى بعض النحاة أن مجيء (ليسجننّ) بنون التوكيد الثقيلة، و(ليكونن) بنون التوكيد الخفيفة معناه أن حرصها على سجنه كان أكبر من حرصها على إذلاله، والأمر فيما نرى يحتمل وجهاً آخر والله أعلم:
لقد أكدت امرأة العزيز بنون التوكيد الثقيلة ما هي قادرة على فعله،أي سجن يوسف(عليه السلام)،أمّا الذل والصَّغار فأمران معنويان لا يملكهما إلا الله سبحانه وتعالى. والإذلال أمر لا يخرج عن كونه مجرد احتمال، فكيف لها أن تؤكد ما لا قدرة لها عليه، ولا بيدها حدوثه...!؟
ولنتأمل فيما آلت إليه الأمور...
توعدت امرأة العزيز يوسف (عليه السلام) بالسجن، بقولها: (ليسجننَّ) وقد كان لها ما أرادت (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) وانظر إلى البيان الإلهي في تكرار لفظة (لَيُسْجَنَنَّ) مؤكدة بالمؤكدين نفسيهما في الحالتين، إشارة إلى أن امرأة العزيز نفذت تهديدها كما أرادت تماماً.
أما الإذلال فليست تمتلك وسائله أو أدواته، لأنه خارج عن إرادتها فلم يكن لها ذلك، إذ كان سيدنا يوسف في سجنه داعياً إلى الله، مبلغاً رسالته، ناصحاً، مستشاراً فيما يجهل علمه سواه (تأويل الرؤيا)، وكان – حسب ما جاء على لسان الفَتيين ـ من المحسنين، ثم لما خرج من سجنه جعله الملك على خزائن الأرض... وفي ذلك كله عزّ ورفعة لا إذلال وصَغَار.
ظهور براءة يوسف
_ ولما سأل الملك امرأة العزيز والنسوة عن أمر يوسف (قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) إنها تقر بذنبها بقولها (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) وجاءت الجملة هنا دون توكيد، كونها جاءت في سياق الاعتراف بذنب يدعو للخجل أمام الملك، فلم يكن من البلاغة إذاً أن يأتي اعترافها هذا مؤكداً، ثم تضيف (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) وهنا تأتي بمؤكدين (إنّ _ اللام في لمن) زيادة في تأكيد براءة يوسف وصدقه. وهذا أيضاً مما يدحض قضية الهمّ التي ذكرت في قوله تعالى (وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) والتي سعى المشككون إلى إثارتها وتأويلها بالشكل الذي يرغبون.
ثم تقول (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) وتوكيدها أن النفس أمّارة بالسوء بمؤكدين (إنّ – اللام في لأمّارة)، حُسْن اعتذار وتبرير لفعل شائن صدر عنها، إذ أكدت أن الأمر خارج عن إرادتها.
ولنتذكر اعتراف امرأة العزيز أمام النسوة وقد هتكت أمامهن ستر الحياء: (لَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ) كيف جاء الاعتراف مقترناً بالتوكيد، بعدما رأت في موقف النسوة عند رؤيتهم يوسف ما يبرر فعلها.
أما أمام الملك فالأمر مختلف حتماً، فجاء اعترافها مبطناً بالحياء (أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ)
إخوة يوسف في مصر
ويأتي إخوة يوسف إلى مصر ليكتالوا، ويردّهم يوسف (عليه السلام) طالباً منهم إحضار أخيهم (بنيامين)، فوعدوه بذلك و(قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ).
وجاء وعدهم هنا مؤكداً بـ (إنّ - اللام في لفاعلون)، وهذا دأبهم في وعودهم، تأتي دائماً حافلة بالمؤكدات، ذلك أنهم - بفعل ما تخفيه نفوسهم من أمر- يرون وعودهم في معرض التشكيك والشبهة. وعادوا إلى أبيهم لإحضار بنيامين (قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) وقولهم (إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) يماثل وعدهم يوم أرادوا الذهاب بسيدنا يوسف. لذا فإن ذلك اليوم كان أوّل ما خطر في بال يعقوب (عليه السلام) عند سماعه وعدهم هذا فـ(قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ).
ولنتذكر وعودهم التي جاءت بصيغ متشابهة، مشفوعة بأساليب التوكيد ذاتها:
قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ
أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ
فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
وهذا موقف من يضمر أمراً، أو يبيّت سوءاً، أو يرى نفسه دائماً في موضع الشبهة والشك وعدم التصديق.
ولذا قال سيدنا يعقوب (لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ) ولعله قَبِل بذلك منهم كونه يدرك أن أولاده لا يكنّون من الغيرة والحقد على بنيامين ما كان في أنفسهم على يوسف (عليه السلام) ولذا لم يبلغ خوفه عليه ما بلغه على يوسف حين أراد إخوته أن يذهبوا به.
ويرسل يعقوب (عليه السلام) ابنه بنيامين مع إخوته، ولمّا أراد يوسف (عليه السلام) أن يستبقي أخاه عنده أسرَّ إليه (إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) وجاء قول يوسف مؤكداً بـ (إنّ) وضمير الفصل (أنا) الذي يفيد التوكيد أيضاً، لأن الأمر يبدو غريباً، فيوسف الذي غاب هذه السنوات الطويلة، دون أن يُعلم مصيره، هو الآن عزيز مصر، ولشدة ما في الأمر من غرابة كان لا بدّ أن يأتي قوله (إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ) مشفوعاً بالتوكيد.
ثم وُضِعَ الصواع في رحل أخيه (ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
فما كان من إخوته لما سمعوا ذلك إلا أن قالوا (تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ) وقد جاء قولهم مؤكداً بالقسم (تالله)، و(لقد) وذلك على الرغم من ثقتهم ببراءتهم من هذه التهمة، لكن الاتهام الذي جاء مؤكداً بمؤكدين (إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) كان لا بد من الردّ عليه برد مشفوع بالتوكيد، خصوصاً أن أخوة يوسف تعوّدوا أن يكونوا موضع الشك والشبهة، ولو كانوا في غير هذا الموضع لأجابوا إجابة الواثق المتأكد من براءته (لسنا سارقين). كقول يوسف حين اتهمته امرأة العزيز أمام زوجها بأنه كان يراودها عن نفسها، فـ (قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي) هكذا دون قسم أو توكيد، بل هي إجابة الواثق من براءته، المتأكد من طهره وعفته.
وعاد إخوة يوسف إلى أبيهم دون أخيهم (بنيامين) فقالوا (يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ)، ولأنهم ليسوا موضع ثقة عند أبيهم قالوا (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) وقولهم (إِنَّا لَصَادِقُونَ) رغم ما فيه من المؤكدات لا يكفي – لو جاء وحده - لإقناع أبيهم بصدقهم، لذا كان من الضروري أن يُشهدوا على ما جاؤوا به أهل القرية التي كانوا فيها، وأصحاب الإبل الذين أقبلوا معهم.
لكن سيّدنا يعقوب، وقد كذبوا عليه في أمر يوسف، ما كان ليصدقهم هذه المرة (قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا). لقد أعادوا إليه مرارة فقده يوسف فـ (تَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) وأثار هذا الأمر استغرابهم (قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ).
وقد جمعوا بين القسم والتعجب في قولهم (تالله) فأكدوا أن تذكره يوسف سوف يؤدي به إلى الهلاك، وأرادوا بذلك أن يصرفوه عن فعله هذا، وتعجبوا في الآن ذاته من تذكره يوسف بعد هذا الزمن الطويل على فقده وغيابه عنه.
إخوة يوسف.. من الشك إلى اليقين
ويعود أبناء يعقوب (عليه السلام) إلى مصر، ويسألهم يوسف (هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ) وهذا سؤال من باب الإخبار. وإخبارهم بأمر كان ما يزال سرّاً بينهم أمر مثير للاستغراب فـ (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ) وجاؤوا بمؤكدين (إنّ - اللام في لأنت)وهنا لا بد من أن نتوقف قليلاً:
هل كان إخوة يوسف في حاجة إلى هذا التساؤل حتى يكتشفوا أن عزيز مصر ما هو إلا أخوهم يوسف..؟؟
إن الانتقال من أقصى الغفلة وعدم المعرفة بشخصية يوسف إلى أقصى المعرفة وآخر حدودها أمر أكبر من أن يثيره تساؤل سيدنا يوسف (هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) وكان الأولى بهذا التساؤل أن يثير في أنفسهم شكوكاً بأن أخاهم الذي استبقاه العزيز عنده هو من أخبره بقصة ذهابهم بيوسف وعودتهم دونه... لكن ذلك لم يحدث!!!
لا شك إذاً أن إخوة يوسف كان قد تسرب إلى نفوسهم أن ثمة شيئاً في ملامح العزيز يشابه شخصية يوسف،لكن عقولهم سرعان ما استبعدت الأمر وأنكرته لفقدان الإشارات الدالة عليه.
ولنعد إلى قوله تعالى في وصف أول لقاء جمع بين يوسف و إخوته: (وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ).
فأي معنى تحمله عبارة: (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)؟
وما هو الإنكار هنا؟
إذا كان الإنكار – لغوياً - ضد المعرفة (حسب التعبير المعجمي) فهل يعني هذا أن الإنكار هو الجهل وعدم المعرفة مطلقاً كما جاء في تفسير (وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)!؟
وماذا نقول إذاً في قوله تعالى (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) / النحل (83)؟؟
إن (الإنكار) يتضمن معنى المعرفة إذاً، أو الشك على أقل تقدير، ثم دفع هذه المعرفة أو تغييبها لسبب ما. والراجح أن إخوة يوسف قد خطر في بالهم عند لقائهم الأول به أن في العزيز شيئاً من أخيهم، ثم جاء الإنكار من ذواتهم لأن القرائن لا تشير إلى ما دار في أذهانهم ولا تدل عليه. فلما سألهم سيدنا يوسف (هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ)تداعى إلى نفوسهم ما كانوا غيبوه عقلاً، وثبت في أذهانهم ما كانوا أنكروه قبلاً. وأيقنوا أن من هم في حضرته إنما هو أخوهم يوسف نفسه، فـ (قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ) وجاء سؤالهم مبطناً بالإخبار فكأنهم قالوا: (إنك أنت يوسف أليس كذلك!؟) لذا لم يأتِ جوابه بـ (نعم) وإنما (قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَـذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَينا).
وانظر في قوله تعليماً لإخوته وتأديباً لهم (إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) فهو يربط بين المقدمات والنتائج، إنّ من يتق الله ويصبر (هذه المقدمات) فإن الله لا يضيّع أجر المحسنين (هذه النتائج) وهذا يذكرنا بقول يوسف (عليه السلام) لامرأة العزيز (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) وفي الحالتين كان لا بد من توكيد المقدمات وتوكيد النتائج، ترسيخاً للقاعدة الإلهية، والشريعة الربانية (العدل) وتوكيداً لها، ولو خلا أحد الأمرين من التوكيد لاختل التوازن بين المقدمات والنتائج.
وأمام هذا الواقع وقف إخوة يوسف و(قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) وفي قولهم هذا أمران تدور حولهما مجمل أحداث القصة، ويلخصان في الوقت نفسه طبيعة العلاقة بين يوسف وإخوته. هما:
1- فضل يوسف على إخوته (تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا)
2- خطيئة إخوة يوسف في حقه (إِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ)
نحن إذاً أمام إقرار من إخوة يوسف بأن الله فضل أخاهم عليهم، واعتراف منهم بما اقترفوه من إساءة في حق أخيهم. وجاء الإقرار مؤكداً بالقسم المتضمن معنى التعجب (تالله) لما آلت إليه أمور يوسف وأحواله، وجاء مؤكداً بـ (لقد) وهذا من باب المبالغة في توكيد الأمر وتثبيته.
كما جاء اعترافهم مؤكداً بمؤكدين أيضاً (إن) المخففة من (إنّ) (اللام في لخاطئين).
لقاء يوسف بأبيه
و تمضي الأحداث و(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ) أي توجهت عائدة من مصر إلى الشام(قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ)
وأتى بقوله(إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ) مؤكداً، رغم تخوفه من أن ينسبوه إلى الخرف، لأنه كان على ثقة بأن الله سيجمعه بيوسف تحقيقاَ للرؤيا التي رآها ابنه في صغره …. أَوَلم يقل قبل ذلك (أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
(قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ) وهذا تأكيد وتعجب من أن سيدنا يعقوب لم يزل مصرّاَ على زعمه بأن ابنه يوسف حي، ولم يهتد بعد إلى صواب الرأي، ويقنع بأنه قد ذهب دون عودة.
ولما ألقى إخوة يوسف قميص أخيهم على وجه أبيه ارتد بصيراً، فعاد ليذكرهم بقوله فيما مضى (أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) لكنه هذه المرة يأتي بقوله مؤكداً، بعد أن مثلت بين يديه دلائل علمه من الله فـ (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ).
ولأن اعتراف إخوة يوسف (عليه السلام) أمام أخيهم لم يكن كافياً، ذلك أن ما ارتكبوه من ذنب في حقه كان قد ترك أثره في أبيهم أيضاً، وأصابه جرّاء ذلك من الحزن والهم ما أفقده بصره، لذا وقفوا أمام أبيهم وقفة المقرّ بذنبه، المعترف بخطيئته، و(قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ) وجاء اعترافهم هذا مؤكداً بمؤكد واحد (إنّ)، في حين جاء اعترافهم أمام أخيهم (إِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ) بمؤكدين.
و لذلك دلالة لابد من الوقوف عليها: لقد كان يوسف هو المقصود بالإساءة، وهي إساءة مقصودة، متعمدة، جاءت إثر حوار ونقاش وتداول، بينما لم يكن أثر ذلك على أبيهم مقصوداً لذاته، متعمداً، وإنما جاء نتيجة فعلهم مع يوسف. فلما وقفوا أمام من تقصدوا إلحاق الأذى به، وقد أصبح ذا قوة وسلطان، وهو قادر _ لو أراد _ أن يقتص من إخوته، كانوا أشد حرصاً على الاعتذار إليه واسترضائه، لذا جاء اعترافهم - كما اعتذارهم - مؤكداً.
ولربما كانوا أبلغ اعتذاراً أمام يوسف من أبيهم كونهم وثقوا من أن أباهم - بحكم عاطفة الأبوة – سيكون أكثر استعداداً للصفح والمسامحة. وهذا ما لا يتوقعونه من أخيهم، وقد سعوا في إيذائه وحاولوا التخلص منه.
- وتحققت رؤيا يوسف (عليه السلام) والتفت إلى أبيه(وَقَالَ يَا أَبَتِ هَـذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)وقد توجه بخطابه إلى أبيه لأنه من قص عليه رؤياه وهو صغير فأوّلها له، وكل ما جاء في تأويل الرؤيا أول القصة جاء دون توكيد (وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
وأما ما يقوله يوسف الآن وقد غدا كل شيء حقيقة واقعة فيأتي مؤكداً (قَدْجَعَلَهَا) (وَقَدْأَحْسَنَ بَي) (إِنَّرَبِّي) حتى قوله (إِنَّهُهُوَالْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). وقد جاء قول يعقوب (عليه السلام)(إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) مؤكداً بمؤكد واحد عند تفسير الرؤيا، أما هنا وقد تأكد كل شيء، وأصبح واقعاً ملموساً، فقد جاء قول يوسف (عليه السلام) مؤكداً بـ (إنّ) وضمير الفصل (هو) وجاءت كلمتا (عليم _ حكيم) معرفتين بأل: (العليم الحكيم). وهذه الـ (أل) تفيد الاستغراق، فالله تعالى هو العليم الذي ينتهي إليه كل علم، الحكيم الذي تنتهي إليه كل حكمة... وفي هذا توكيد لهذه الصفات.
إذاً، شكل التوكيد - حضوراً وغياباً - ركناً أساسياً في البناء الأسلوبي للحوار في قصة يوسف (عليه السلام) إذ لعب دوراً مهماً في الكشف عن طبائع شخصيات القصة وميولها وأهوائها، وأسهم في فضح خفايا النفس البشرية و إظهار مكنوناتها الدفينة، عن طريق اللغة الحوارية التي تمثل الوسيط الأهم بين عوالم الإنسان الداخلية والعالم المحيط.