اعلم أن هاتين الخصلتين من أقبح القبائح وأكثرها انتشارا في الناس، حتى ما يسلم منهما إلا القليل من الناس، فلعموم الحاجة إلى التحذير منهما بدأت بهما.
فأما الغيبة: فهي ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره، سواء كان في بدنه، أو دينه أو، دنياه أو نفسه، أو خلقه، أو خلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو عمامته، أو ثوبه، أو مشيته، وحركته وبشاشته وخلاعته، وعبوسه، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك أو نحو ذلك.
أما البدن، فكقولك: أعمى، أعرج، أعمش، أقرع، قصير، طويل أسود، أصفر.
وأما الدين، فكقولك: فاسق، سارق خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات، ليس بارا بوالده، لا يضع الزكاة مواضعها، لا يجتنب الغيبة.
وأما الدنيا: فقليل الأدب، يتهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقا، كثير الكلام، كثير الأكل أو النوم، ينام في غير وقته، يجلس في غير موضعه.
وأما المتعلق بوالده، فكقوله: أبوه فاسق، أو هندي، أو نبطي، أو زنجي، إسكاف، بزاز، نخاس، نجار، حداد، حائك.
وأما الخلق، فكقوله: سيئ الخلق، متكبر، مراء، عجول، جبار، عاجز، ضعيف القلب، متهور، عبوس، خليع، ونحوه.
وأما الثوب: فواسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثوب ونحو ذلك، ويقاس الباقي بما ذكرناه.
وضابطه: ذكره بما يكره.
وقد نقل الإمام أبو حامد الغزالي إجماع المسلمين على أن الغيبة: ذكرك غيرك بما يكره، وسيأتي الحديث الصحيح المصرح بذلك.
وأما النميمة: فهي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد.
هذا بيانهما.
وأما حكمهما، فهما محرمتان بإجماع المسلمين، وقد تظاهر على تحريمهما
الدلائل الصريحة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة، قال الله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات: 12] وقال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] وقال تعالى: {هماز مشاء بنميم} [القلم: 11].
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة نمام" .
وروينا في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين، فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير" قال: وفي رواية البخاري: "بلى إنه كبير، أما أحدهما، فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر، فكان لا يستتر من بوله" .
قلت: قال العلماء: معنى "وما يعذبان في كبير" أي: في كبير في زعمهما، أو كبير تركه عليهما.
(1/231)
وروينا في صحيح مسلم وسنن أبي داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟" قالوا: الله ورسوله اعلم، قال: "ذكرك أخاك بما يكره" ، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول، قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروينا في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم النحر بمنى في حجة الوداع: "إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا ألا هل بلغت"؟ .
وروينا في سنن أبي داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا قال بعض الرواة: تعني قصيرة، فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" ، قالت: وحكيت له إنسانا فقال: "ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا" قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
قلت: مزجته: أي خالطته مخالطة يتغير بها طعمه أو ريحه لشدة نتنها وقبحها، وهذا الحديث من أعظم الزواجر عن الغيبة أو أعظمها، وما اعلم شيئا من الأحاديث يبلغ في الذم لها هذا المبلغ {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3] نسأل الله الكريم لطفه والعافية من كل مكروه.
وروينا في سنن أبي داود عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" .
وروينا فيه عن سعيد بن زيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق" .
وروينا في كتاب الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام عرضه، وماله ودمه، التقوى ها هنا، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم" قال الترمذي: حديث حسن.
قلت: ما أعظم نفع هذا الحديث وأكثر فوائده، وبالله التوفيق.